بانتهاء عهد
الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات وتفكك الكتلة الاشتراكية وانحلال الاتحاد
السوفييتي في العام 1991، انتقل الصراع الآيديولوجي العالمي، من ضفة إلى أخرى،
لاسيما عندما اتّخذ من الإسلام السياسي عدوّاً جاهزاً لمحاربته، في إطار ما سمي
بالنظام الدولي الجديد، الذي لعبت فيه الولايات المتحدة الدور المتسيّد والمتنفّذ في
العلاقات الدولية، خصوصاً بانقضاء نظام القطبية الثنائية الذي طبع فترة ما بعد
الحرب العالمية الثانية، ولمدّة قاربت من أربعة عقود ونصف من الزمان!
ولعل من أبرز ملامح فترة الصراع
الآيديولوجي مع الإسلام السياسي، كانت مسألة الإرهاب الدولي، التي استخدمت ذريعة
لشنّ الحرب وإرسال الجيوش وذريعة و"تحقيق المصالح الحيوية" للقوى
المتنفّذة، دون مراعاة مصالح الأمم والشعوب واعتبارات القانون الدولي، لدرجة أصبح
العالم كلّه على الحافة واتّسعت في تلك الفترة بالذات نشاطات قوى التطرف والتعصب
والغلو في العالمين العربي والإسلامي، الأمر الذي أعطى ذريعة جديدة لواشنطن
لمواصلة ستراتيجيتها ضد تطلّعات الشعوب وأهدافها في التحرر والانعتاق والتنمية
والإصلاح.
وكانت كلّما حدثت عملية إرهابية تتوجه الإنظار إلى المنطقة العربية-
الإسلامية، مثلما حصل في أحداث أوكلاهوما العام 1995 والتي اتّضح أن لا علاقة
للعرب والمسلمين بها. وإن الإرهاب لا وطن ولا هوية ولا جنسية ولا دين ولا مذهب ولا
لغة له، إنه موجود في جميع المجتمعات ويمكن أن يستنفر في ظل أوضاع تؤدي إلى
استفحاله أو تساهم في الحد من غلوائه، تبعاً للحالة الاجتماعية والاقتصادية
والثقافية والتعليمية وغيرها.
الجيولوليتيك والإرهاب الدولي
كانت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية محطة أساسية وفاصلة بحكم
تداعياتها التي طالت شعوباً وأمماً وثقافات وحضارات وأديان، وقد هيمن على العالم
قلق ومخاوف إزاء استفحال وامتداد ظاهرة "الإرهاب الدولي" International Terrorism، وفي الوقت نفسه تباينت التفسيرات حوله بتباين الجهات والتيارات
التي تقف خلفه وتديره، الأمر الذي بات من الضروري تسليط الضوء عليه للوقوف على
أسبابه ومعرفة جذوره، خصوصاً بعد أن أصبح موضوع مكافحة الإرهاب الدولي موضوع
الساعة، وذلك بعد الهجوم الذي بدأته الولايات المتحدة وبعض حلفائها ضد تنظيم
القاعدة وأسامة ابن لادن وحكومة طالبان في أفغانستان، المتهمون بالعملية الارهابية
الإجرامية ضد السكان المدنيين العزّل، الذي حصل في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا.
وإذا كان العالمان العربي والإسلامي قد شهدا تصعيداً خطيراً فيما يتعلق
بالارهاب، فهما بالأساس كانا مستهدفان من جهة كون الذين اتهموا بالقيام بالعلميات
الإرهابية ينتمون إليهما أولاً، وثانياً كونهما ظلاّ مترددان أو خارج نطاق
الانخراط الفاعل أو بتعاون محدود ودون حماسة في الحملة الدولية ضد الإرهاب الدولي،
التي قادتها الولايات المتحدة ضمن أهداف خاصة ووفقاً لمعطيات لم تشأ نشرها أو
إطلاع الدول والحكومات عليها، علماً بأنها كانت قد طلبت من الدول العربية والإسلامية
التعاون الأمني واللوجستي لمكافحة الإرهاب، دون تقديم معطيات ملموسة لها، وهو
الأمر الذي استمر يتكرر لمدة زادت على عقد من الزمان، حيث قامت طائرات أمريكية دون
طيار في الغالب بقصف مواقع في الباكستان وأفغانستان واليمن والعراق وغيرها بحجة
ملاحقة الإرهابيين، دون أي مراعاة للقوانين الدولية ولحدود وسيادة الدول وحرمة
أراضيها، تلك التي يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة.
وترافقت الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب الدولي بتصعيد "إسرائيل"
وخصوصاً في عهد حكومة شارون من أعمالها الإرهابية ضد الشعب العربي الفلسطيني،
مستغلة تلك الحملة ومحاولة دمغ المقاومة السلمية المدنية للاحتلال والإستيطان
بالإرهاب، وهو الأمر الذي تكرر ولا يزال في حصار غزة المستمر منذ العام 2006 وحتى
الآن وفي الحرب المفتوحة عليها، سواء في أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009 والتي
دامت 22 يوماً أو في عمليات القصف المستمر وترويع السكان المدنيين بحجة ملاحقة
الناشطين من تنظيمات المقاومة الفلسطينية الذين تتهمهم بالارهاب، وكذلك في الحرب
على لبنان التي دامت 33 يوماً في العام 2006 واستمرار تهديد سيادتها واستقلالها،
فضلاً عن الاحتفاظ بأراضي لبنانية محتلة في مزارع شبعا، ظلّت حتى بعد اضطرار
"إسرائيل" للانسحاب من لبنان وهزيمتها في العام 2000.
لقداستخدمت الولايات المتحدة القوة المسلحة لأجل بلوغ أهداف سياسية، وحضّرت
لهذه الستراتيجية، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وقبل انتهاء الحرب الباردة،
ولكنها تعاظمت بعد انفرادها في الساحة الدولية كلاعب أساس منذ أواخر الثمانينيات
وحتى الآن.
الجيوبوليتيك واستعادة
الماضي بهدف الحاضر
يمكن باختصار تسليط الضوء على أهم محطات الاستراتيجية الأمريكية منذ انتهاء
الحرب العالمية الثانية، وبداية عهد الحرب الباردة وإلى اليوم، بهدف المساعدة في
قراءة استعادية للماضي القريب:
المحطة الأولى: مبدأ ترومان،
الذي قام على فكرة " القوة الضاربة" وهي فكرة مفادها إعطاء الحق
للولايات المتحدة للتدخل بقوة عسكرية حين تقتضي مصالحها. وهي الخطة التي طبقت في
كوريا والفيتنام وأمريكا اللاتينية وغيرها. وكان الرئيس ترومان قد أعلن هذا المبدأ
في 12 آذار (مارس) 1947، وهو العام الذي شهد إعلان ونستون تشرشل الحرب الباردة من
طرف العالم الحر ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي.
المحطة الثانية: مبدأ
ايزنهاور، الذي اعتمد على ما سمي بـ"نظرية ملء الفراغ"
حفاظاً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وهو ما سيتم التطرق إليه لاحقاً.
المحطة الثالثة: مبدأ نيكسون،
الذي قام على نظرية " الدركي بالوكالة" وهو دعوة لصيغة مشاركة من قبل حلفاء الولايات
المتحدة في تحمل أعباء النفقات العسكرية واستقطاب متعدد الأطراف حسب بريجنسكي
مستشار الأمن القومي الأسبق فيما بعد .
المحطة الرابعة: مبدأ كارتر
المعروف بـ" التدخل السريع والمباشر" الذي بموجبه يحق لواشنطن أن تتصدى بأي وسيلة بما
فيها القوة المسلحة " أي تطاول" على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وهو ما عناه بريجنسكي
مستشار الأمن القومي الأسبق " قوس الأزمات والعمليات الصاعقة"
الذي يعني التدخل المسلح لمجرد وجود خطر وشيك الوقوع ومحتمل يهدد المصالح الحيوية
للولايات المتحدة.
وعلى هذا الأساس تحدّدت "استراتيجية الحرب ونصف الحرب" حسب
المناطق. فالمنطقة الأولى أوروبا، والمنطقة الثانية هي الشرق الأقصى،
أما المنطقة الثالثة فهي الشرق الأوسط. وتعني هذه الاستراتيجية أن يكون
للولايات المتحدة القدرة على شن حرب شاملة في أوروبا وفي نفس الوقت تستطيع أن تشن
نصف حرب في أي مكان من العالم، أي حرب أساسية( ضد الاتحاد السوفييتي السابق) وحرب
فرعية (في أي بقعة من العالم).
إن مبدأ كارتر هو استمرار لمبدأ أيزنهاور المعروف بمبدأ "إملاء
الفراغ" تبعاً "للمصالح الحيوية" بوجه " الخطر
السوفيتي" وبموجب ذلك فوّض الكونغرس الأمريكي الرئيس " سلطة استخدام
القوة العسكرية" وحق استقدام قواتها لمساعدة أي بلد أو مجموعة من البلدان
تطلب المساعدة .
وقد عبّر عن ذلك منذ وقت مبكر جون فوستر دالاس وزير الخارجية
الأمريكي الأسبق لدى زيارته للشرق الأوسط عام 1953 بضرورة بناء " الحزام
الشمالي" وفي جنوب شرق أسيا عبّر عنها بفكرة بناء " السدود
المنيعة".
وحول مصطلح " المصالح الحيوية" فتجدر الاشارة إلى أنه ليس
جديداً بل يعود إلى عهد الرئيس الأمريكي مونرو، الذي اعتبر نصف العالم
الغربي مجالاً حيوياً للمصالح الأمريكية. ووسع الرئيس ترومان من هذا
المفهوم فشمل حوض البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، أما الرئيس كارتر،
فقد أدرج في هذا المجال، أوروبا الغربية والدول الاسكندينافية وأفريقيا والشرق
الأدنى وجنوب شرقي آسيا.
ثم تطور الأمر على يديه ليعتبر العالم كله مجالاً حيوياً للمصالح
الأمريكية وخصوصاً منابع النفط في الخليج العربي، حيث يحقّ لواشنطن أن تصدّ بأية
وسيلة، بما فيها القوة المسلحة، أي تطاول على المصالح الحيوية الأمريكية.
ولعل هذا بالضبط ما قصده المفكر الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي بالقول:
إن النظام الأمريكي هو نظام مركزي كوني، وهو صورة للنظام العالمي الجديد وإن
" أي تحدٍّ له لا يمكن التسامح حياله: فكل عمل من جانب الولايات المتحدة يهدف
لتعزيز نظامها وآيديولوجيتها والحالة هذه هو عمل دفاعي"
المحطة الخامسة: مبدأ ريغان،
المعروف بـ" مبدأ التوافق الستراتيجي" الذي تم بموجبه تطوير فكرة
الحيوية وتحقيقاً لأهداف المجمّع الصناعي- الحربي، الهادف إلى بسط السيطرة
الأمريكية على مناطق شاسعة من العالم وتطبيقاً لسياسة العصا الغليظة، الذي اتخذ
شكل هيمنة وتسيّد على العالم بعد انهيار الكتلة الشرقية.
لقد تطورت نظرية الحرب ونصف الحرب في عهد ريغان، لتصبح " نظرية
الحربين ونصف الحرب" حسب كاسبار واينبرغر في أوروبا والخليج وحروبصغيرة
في أمريكا اللاتينية .
المحطة السادسة: مبدأ الإستخدام
الأوسع لنظرية القوة المسلحة" وهو المبدأ الذي دشنه الرئيس الأمريكي جورج
بوش الأب ومن بعده الرئيس كلينتون ثم الرئيس جورج دبليو بوش الإبن،
إذ جرى تقديم القوة المسلحة وسيلة لفض النزاعات الدولية على الوسائل السياسية
السلمية وحتى قبل استنفاذها، وربما دون إعارة اهتمام لها وبشكل خاص في إدارة الرئيس
بوش الإبن، التي دأبت خلال ثماني سنوات على رفع درجة حدّة التوتر العالي مستغلة
أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في محاولة لابتزاز العالم أجمع، لاسيما بدفع الأمم
المتحدة على اتخاذ قرارات تبيح لها شن حرب استباقية أو حروب وقائية، بزعم تدارك
الأمر في مواجهة الإرهابيين، وخصوصاً القرارات الثلاث، الأول: القرار 1368
الصادر في 12 أيلول (سبتمبر) 2001 والثاني: القرار 1373 الصادر في 28 أيلول
(سبتمبر) من العام نفسه، وهو أخطر قرار في تاريخ الأمم المتحدة والثالث: القرار
1390 الصادر في 16 كانون الثاني (يناير) 2002، وهي قرارات شرعنت للقوى المتنفّذة
القيام بإجراءات واتخاذ خطوات بما فيها شن الحرب بزعم أن خطراً وشيك الوقوع يمكن
أن يحدث.
وتمكّنت واشنطن من توظيف تلك القرارات بما يخدم أهدافها الستراتيجية
الحيوية، حيث انقلبت الآية من مكافحة الارهاب إلى القيام بإرهاب الدولة واحتلال
أراضي والتدخل بشؤون الدول الأخرى وفرض الهيمنة بزعم ملاحقة الإرهابيين والإرهاب
ونشر قيم الحرية والديمقراطية.
المحطة السابعة: فترة رئاسة
أوباما التي واجهت منذ بداياتها تحدّيات كبرى وتركة ثقيلة على الصعيد الداخلي
أو الخارجي، وعلى المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تلك التي تجلّت بالأزمة
المالية والاقتصادية العالمية التي ضربت الولايات المتحدة بالصميم، لاسيما بانهيار
مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة، إلاّ نهج واشنطن وخصوصاً إزاء القضايا الأساسية
لم يتغيّر، وإنْ أصبحت أكثر تأنياً، بعد أن كانت أكثر اندفاعاً.
إن سياسة واشنطن على الرغم من كل وعود الرئيس أوباما هي المسؤولة عن انهيار
سمعتها التي تدهورت إلى الحضيض، لاسيما في العالم الثالث، بل على المستوى العالمي،
خصوصاً بعد كشف فضيحة سجن أبو غريب والسجون السرّية الطائرة والسجون السرّية
العائمة وسجن غوانتانامو، وما حصل في سجن قلعة جانكي في أفغانستان وممارسات
التعذيب، حيث شكّلت المشهد الأكثر حساسية لضمير مجتمعاتنا، بل وللضمير الإنساني
بشكل عام.
ولم تتعافَ الولايات المتحدة من وطئ سياساتها حتى يومنا هذا، ولم تفلح
خطابات الرئيس أوباما لتعويض سلفه الرئيس بوش، لاسيما خطابه من جامعة القاهرة في (حزيران/يونيو)
2009 بُعيد توليّه مهماته في البيت الأبيض ببضعة أسابيع، بتأكيده احترام العرب
والمسلمين وخصوصياتهم والحديث عن المشترك الانساني، وكذلك تعهّده بإغلاق سجن
غوانتانامو الذي لم يتحقق على الرغم من أن ولايته تشارف على الإنتهاء (نهاية العام
2013)، فقد ظلّت تلك علامة سلبية في السياسة الأمريكية، وأخذ العالم يتحدث عن
التعذيب للإيهام بالإغراق، وحفلات الاغتصاب الجنسي والجماعي والصور الشاذة والكلاب
الجائعة والماركات المسجّلة، والمدموغة Made in USA.
أفغانستان
والعراق والمشهد الجيوبوليتيكي الأمريكي
اضطرّت واشنطن، وخصوصاً بعد فشل حملتها لمكافحة الإرهاب ولاسيما بعد غزو
واحتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003 إلى دفع جنودها بكثافة لتحقيق
ستراتيجيتها، الأمر الذي ألحق بها خسائر فادحة مادياً ومعنوياً، فمن جهة بشّرت
الولايات المتحدة العالم أن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل بعد تفتيش دقيق لطول
البلاد وعرضها (العام 2005)، وكذلك سكتت عن مزاعمها بشأن علاقته بالارهاب الدولي
وبتنظيمات القاعدة، ولو كان الأمر كذلك لتم كشف الأوراق التي كانت
"مبرراً" لزعم الولايات المتحدة لشن الحرب على العراق، خارج نطاق ما
يسمى بالشرعية الدولية ودون تفويض من الأمم المتحدة، التي عادت وشرعنت الاحتلال
بالقرار 1483 الصادر في 22 أيار (مايو) 2003، وأخضعت كل ما حصل لاتفاقيات جنيف
لعام 1949 ولقواعد القانون الدولي الإنساني.
وابتلعت الولايات المتحدة لسانها بخصوص الديمقراطية المزعومة، المحمولة على
الطائرات، والمصاحبة لسمفونيات القصف المستمر على بغداد، ولاحقاً انفلات أعمال
إرهاب لا حدود لها، واكتفت واشنطن بالحديث عن الاستقرار والهروب إلى الأمام بإعلان
الانسحاب بعد اتفاقية استمرت 3 سنوت (أواخر العام 2008 ولغاية 31 كانون الأول
/ديسمبر 2011) ولكن اتفاقية التعاون الستراتيجي، التي هي أكثر خطورة ونعومة لا
تزال مستمرة وتكبّل العراق وترهق كاهله، بل وتجعله من الناحية الفعلية وتحت باب
التعاون والصداقة واقعاً تحت النفوذ الأمريكي.
واضطرت بفعل ثلاث عوامل إلى الإنسحاب من العراق هي :
العامل الأول- موجة المقاومة السلمية- المدنية التي واجهتها والتي لم تكن تتصورها، إضافة إلى مقاومة مسلحة، وقد
سبّبت لها خسائر مادية ومعنوية كبيرة، ليس أقلّها الأرقام الرسمية، حيث خسرت نحو
4800 قتيل و 26 ألف جريح وأكثر من تريليون دولار لنهاية العام 2008 وربما يصل
الرقم إلى ضعفين، حتى إتمام انسحابها مع بقاء بعض ذيول جيشها وسفارتها التي هي
أكبر سفارة في العالم.
والعامل الثاني- ضغط الرأي العام الأمريكي والأوروبي والغربي، عموماً بخصوص لا أخلاقية الغزو، لاسيما بعد الفضائح الكثيرة التي رافقته،
ناهيكم عن كونه لم يحطْ على ترخيص من الأمم المتحدة أو المجتمع الدولي، الأمر الذي
وضع أكثر من علامة استفهام حوله، خصوصاً بعد الخسائر التي تعرّضت لها واشنطن في
العراق.
والعامل الثالث- الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي اجتاحت الولايات المتحدة، وضربتها بالصميم وادّت إلى انهيار مصارف
كبرى وشركات تأمين عملاقة، وهي لم تعد قادرة على استمرار احتلالها الذي كلّقها
أثماناً باهظة.
لقد طبعت واشنطن العقد الماضي كلّه بطابعها، فعززت من نشر أطروحاتها بصدد
مكافحة الإرهاب الدولي، معتبرة كل عمل ضدها يندرج في هذا الإطار، حتى ولو كان
مقاوماًَ وروّجت لمفهوم الحرب الاستباقية أو الحرب الوقائية كما أشرنا، وطرحت فكرة
التفكيك وإعادة البناء، وفقاً لما يسمى بالفوضى الخلاقة، كما روّجت لأطروحة
الديمقراطية والإصلاح وحاولت ابتزاز بلدان عربية وإسلامية لتغيير مناهجها والتدخل
بشؤونها فيما يتعلق بالخيارات الاجتماعية.
ولذلك فإنها بعد الربيع العربي وقفت في بداية الأمر بحالة ذهول لما حصل في
تونس ومصر، ثم تصرفت على نحو براغماتي للاتصال بالحركات الإسلامية للتعرّف عليها
مباشرة وفهمها ودراسة إمكانية التعاون معها بعد أن أصبحت الأنظمة الاستبدادية التي
دعمتها في خبر كان.
واضطرّت واشنطن إلى جرجرة هزيمتها في أفغانستان فعلى الرغم من مرور نحو 11
عام على غزوه فإنها غير قادرة على حفظ الأمن واستتباب الوضع، وأن الحكومات التي
جاءت بها لا تزال عاجزة، وأعمال العنف والارهاب ومقاومة وجودها العسكري لا تزال
قائمة. وبسبب ذلك ولوجود تنظيمات القاعدة التي تعاملت معها باكستان ببراغماتية
ومصلحية، فإن علاقتها ساءت مع الباكستان
وهي دولة إسلامية مهمة، ولها موقع نووي أيضاً وتلعب دوراً مؤثراً في جنوب آسيا
وغربها، فضلاً عن دورها الإسلامي، خصوصاً علاقاتها مع الصين.
الجيوبوليتيك
والربيع العربي
ثمة محاور أساسية تندرج تحت هذا العنوان الواسع والكبير، لاسيما في فترة
تغييرات هائلة يمرّ بها العالم العربي، سواءً في البلدان التي شهدت احتجاجات
وتظاهرات وصراعات مختلفة أدّت إلى الإطاحة بالأنظمة أو في البلدان التي ظلّت بمعزل
عنها، لكنها لن تكون بعيدة عن تأثيراتها حتى وإنْ أتت بعد حين، لأن عملية التغيير
والانتقال الديمقراطي جزء من قانون طبيعي للتطور التاريخي وصلت مفاعيله اليوم إلى
البلدان العربية، بعد أن مرّت موجته الأولى في أوروبا الغربية في السبعينيات،
واجتاحت الموجة الثانية أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، وفي فترة متزامنة
ومتعاقبة وصلت الموجة إلى أمريكا اللاتينية، وها هي الموجة الثالثة للتغيير تصل
إلى البلدان العربية.
بدت صورة البلدان العربية خارجياً، وكأنها استعصاءٌ أو استثناءٌ من عملية
الانتقال الديمقراطي على الرغم مما يدور في داخلها، وإذا بالحراك الشعبي الذي بدأ
من تونس يزحف سريعاً وينتقل إلى مصر ومنها إلى العديد من البلدان العربية. ولعل
المتمعّن في أوضاع بلادنا العربية، سيدرك أن هناك تراكماً تدريجياً لم يظهر تغييره
النوعي إلاّ حين نضجت اللحظة الثورية، تنبؤية، ولم يكن الأمر إذاً صدفة أو إشارة
غامضة جاءت من الخارج، وإن بدا مفاجأة، لاسيما إيقاعها السريع، وكانت قد تكشفت على
نحو لم يسبق له مثيل العلاقة غير السويّة بين الحاكم والمحكوم التي وصلت إلى
إنسداد أفق، وإلى طريق مسدود بتعاظم العسف وشحٌ الحريات واستشراء الفساد، فحانت
لحظة الإنفجار حين اندلعت الثورات العربية الواحدة تلو الأخرى.
لعل الحراك الشعبي والرغبة في التغيير كان تراكماً طويل الأمد شمل ما هو
سياسي واجتماعي واقتصادي ونقابي ومهني، حيث كان يتمظهر ثم يخبو، حتى يكاد يقترب من
الانطفاء، بسبب عوامل موضوعية وأخرى ذاتية، لكنه لا ينقطع، وظلّ مستمراً ومتواصلاً
على الرغم من الصعود والنزول، إلى أن جاء موعد اللحظة الثورية المثيرة للدهشة حد
المفاجأة، يوم أحرق بوعزيزي نفسه في تلك المدينة النائية "سيدي بو زيد"
فانتقلت الشرارة وسرت مثل النار في الهشيم، وكما يقول ماوتسي تونغ: يكفي
شرارة واحدة لكي يشتعل السهل كلّه.
حصلت اللحظة الثورية حين نضجت وتفاعلت واتّحدت العوامل الموضوعية، والعوامل
الذاتية، لاسيما عندما انتقل الخوف من المحكومين، إلى الحاكم، فلم يعد هناك ما
يخيف الشعب بعد أن عملت آلة الإذلال والكبت والقتل ما عملته، بالشعب الأعزل،
وعندها لم يعد الموت مرعباً، في حين أصبح، هذا الموت، يخيف الحاكم الذي أخذ
بالتراجع خطوة بعد أخرى، وتصريحاً بعد تلميح، وإجراءً بعد آخر.
وهنا اختلّت موازين القوى لصالح المحكومين في حين ظل الحاكم يبحث عن ملاذ،
فقد وجده زين العابدين بن علي في الرحيل، وفي حالة محمد حسني مبارك
كان بالتنازل بعد تطمينات من الجيش، الذي كان الخطوة الانتقالية للسلطة في
البلدين، بينما في حالة القذافي فقد لاذ بالفرار، لكنه لم يتمكن من النجاة
واضطر علي عبدالله صالح إلى التوقيع على المبادرة الخليجية بعد مماطلة دامت
نحو ثمانية أشهر، في حين ظل بشار الأسد متمسكاً بالسلطة، مثلما ظلّت
التظاهرات الشعبية مستمرة ودون انقطاع منذ 15 آذار (مارس) من العام الجاري(2011)،
ودخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة وخطيرة حين بدأ مسلسل العقوبات من جانب جامعة
الدول العربية الذي انتقل إلى مجلس الأمن، الأمر الذي ساهم في تدويل المسألة
السورية.
وبعد مرور أكثر من 15 شهراً فإن جميع فرق المراقبة العربية والدولية، بما
فيها التي يترأسها كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، لم تفلح
في إيقاف نزيف الدم ووضع حد لأعمال القمع والعنف والصدام، وأستطيع القول أن الأزمة
السورية دخلت في نفق ضيق وسيكون الخروج منه عسيراً وأن كلاً من السلطة والمعارضة،
لاسيما المسلحة، دخلا في سباق أقرب إلى المصارعة على الطريقة الرومانية لا ينتهي
إلاّ بموت أحد المتصارعين ووصول الثاني إلى حالة من الإعياء والإنهاك أقرب
النهاية، ولكن الشعب سيدفع الثمن باهظاً، ولاسيما إذا استمر نار العقوبات والاحتراب
والقمع ، خصوصاً وهو يعاني منذ أربعة عقود ونيّف من الزمان من الاستئثار بالحكم
والتفرد فيه ومن الفساد وهدر الحريات .
لعل أهم المشتركات للثورات العربية تتلخص بالمطالبة بالحريات والكرامة
الانسانية ومحاربة الفساد المالي والإداري المستشريين، لاسيما تماهي السلطة مع
المال. وكانت تقارير التنمية البشرية لسنوات قد شخّصت الحال بهدر الحريات
والنقص الفادح في المعرفة والافتئات على حقوق الأقليات وعدم مساواة المرأة بالرجل،
وتلك القضايا شكّلت المشهد الذي يكاد يكون مشتركاً للوضع العربي، وإن كان هناك بعض
الخصوصيات، فمثلاً إن وضعية المرأة وحقوقها كانت مكفولة في تونس قانونياً وهي
تختلف عن العديد من البلدان العربية منذ عهد الرئيس بورقيبة بعد الاستقلال في
العام 1956.
وإذا كانت تونس تعيش في كنف الحزب
الواحد وكذلك سوريا حيث " الحزب القائد" أما ليبيا فإن تشكيلات
"اللجان الثورية" لا يمكن إدراجها تحت أي مسمّى سوى "الحزب
الواحد" مع تحريم الحزبية " من تحزّب خان"، فإن مصر كانت قد وجدت
في فكرة التعددية الشكلية طريقاً للحكم، في حين كانت اليمن تعيش توازناً إلى حد ما
بين حزب السلطة " المؤتمر الشعبي" والمعارضة السياسية الممثلة
"بأحزاب اللقاء الوطني"، لاسيما في العقد الأخير. أما البحرين فإن
التباس العامل الإقليمي ساهم في تضبيب صورتها، لاسيما وأن القوة الأساسية فيها من
حركة الوفاق الشيعية، الأمر سهّل اتهام إيران بالتدخل في شؤونها، علماً بأن لجنة
التحقيق الدولية برئاسة الخبير الدولي محمود شريف بسيوني لم تلحظ أو تتوفر لديها
معطيات لهذا التدخل، وقد بادر مجلس التعاون الخليجي، ولاسيما المملكة العربية
السعودية بإرسال قوات تحت عنوان "درع الخليج" للدفاع عن الحكم في
البحرين، لكن المسألة لم تهدأ بعد واحتمالات انفجاراتها لا زال مستمراً، إذ أن
جذوتها حتى الآن متّقدة، وخصوصاً في ظل الشحن الطائفي والمذهبي وحملات المواجهة
والعنف.
لم يكن في البلدان العربية عشية الاحتجاجات الشعبية ما يشير أو حتى يوحي في
بعضها على الأقل، أن الذي حدث سيحدث، في حين كان العالم يراكم خبرات وتجارب على
هذا الصعيد، إلى أن حصل التراكم التدريجي ذروته، فانفجر الوضع في بعض البلدان
وتأخر في أخرى، وحتى البلدان التي لم يتحقق فيها التغيير ثورياً فلم تكن بمنأى عن
استحقاقاته.
وبغضّ النظر عن نتائج الحراك الشعبي العربي وتداخلاته الإقليمية والدولية
أحياناً، فإنه بلا أدنى شك غيّر الصورة النمطية السائدة عن العرب، تلك التي كانت
أقرب إلى السكون، وإذا بالعديد من البلدان العربية تمرّ بحركة غير مشهودة، حيث
تنزل الجماهير إلى الشوارع والساحات تريد تغيير مستقبلها وصناعة مصيرها، وعلى
الرغم من حرمانها واستلابها فقد رفعت شعارات سلمية وذات طبيعة مدنية، وبغلبة للشبابية
والوسطية والاعتدالية والمطالبة بالحريات والكرامة الانسانية ومحاربة الفساد،
ومثّلت هذه السمات مشتركاً لجميع الحركات الاحتجاجية الشعبية، وإنْ كان لكل بلد
خصوصيته وتطور مطالبه وشعاراته، لكنها في بداية الأمر رفعت هذه الشعارات ذات الصفة
المطلبية تلك التي لم يجر التعامل معها بصورة إيجابية، فزاد الأمر تعقيداً، حتى
غدت مطالب من قبيل تغيير الأنظمة، كحد أدنى، لا يمكن القبول بأقل منها.
لقد دلّ الحراك الشعبي على أصالة حركة التغيير، التي لم تكن سوى
نتاج تفاعل سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي داخلي ونضالات طويلة ومعقّدة لقوى
وحركات سياسية وفكرية، على مدى عقود من الزمان، ناهيكم عن عوامل موضوعية وأخرى
ذاتية، مع وجود أوضاع دولية مشجعة، خصوصاً الموجة الداعمة لقضايا حقوق الانسان
والحريات على المستوى العالمي، تلك التي ازداد رصيدها منذ انتهاء عهد الحرب
الباردة في أواخر الثمانينيات، وحتى وإن تم توظيفها لأغراض سياسية الاّ أنها
موضوعياً خلقت أجواء مناسبة دولياً للتغيير والانتقال الديمقراطي، بغض النظر عن
ازدواجية المعايير وانتقائية السياسات.
وأكّد الحراك الشعبي ان عملية التغيير لا يمكن صنعها في الخارج أو
زرعها في بيئة غير مناسبة وفي أجواء غير صحية، والاّ فإن الثورات ستذبل وتدريجياً
ستموت وقد تتحول إلى ضدها، فلكل تربة لها كيمياء خاصة، وإن كان هناك مشتركات،
وعلاقة جدلية بين الداخل والخارج. ولا يمكن أن تنجح ثورة في العالم دون وجود مثل
هذه الجدلية على مرّ التاريخ، وإن اختلفت موازين القوى، خصوصاً ونحن نتحدث في
العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
وقد لعب الاعلام وشبكات الاتصال والمواصلات والثورة العلمية
والتكنولوجية والطفرة الرقمية " الديجيتل" دوراً كبيراً في ربط البلدان
العربية بالعالم، وكذلك بدول الجوار التي بدت مؤثرة، كما أنه رفع من درجة وعي
المجتمعات ودفعها إلى التفاعل، لكي تلعب دوراً في عمليه التغيير ورسم صورة
المستقبل.
ودلّ الحراك على دور الشباب وحيويته، حيث كان يمثل العقل المدبّر
والساعد المنفّذ، وحتى وإن بدى الحراك عفوياً، وقد كان كذلك، الاّ أنه لم
يكن بمعزل عن تراكمات طويلة الأمد، ساهم المجتمع المدني على ضعفه ومشكلاته
في تهيئة المستلزمات الأولى لها أو الدعوة إليها، وكذلك القوى والفاعليات السياسية
والفكرية، كما كشف الحراك عن النزعة الوسطية الاعتدالية الجامعة، وهي التي
ظهرت لدى جميع التحركات الشعبية، حتى وإن اتخذ بعضها طابعاً عنفياً، الاّ أنه ظل
محدوداً بشكل عام، ولم يلجأ إليه الاّ بعد عنف مضاد أو دفاعاً عن النفس، وإن تطوّر
الأمر لاحقاً، لاسيما بالتداخل الخارجي، وظهور بعض المجموعات المسلّحة.
إن عملية التغييرموضوعياً ودون إسقاط رغبات الكبح أو الانفلات، ستطرح
الكثير من القضايا التي ستطفو على السطح مثل الموقف من الأقليات والتنوّع
الثقافي، لاسيما الديني والطائفي والإثني، فمثلاً برزت المسألة الدينية في مصر
(مشكلة الأقباط) وفي سوريا برزت (المشكلة الكردية) وكذلك البعد
الطائفي والمذهبي كجزء من صراع مستتر (السنّة والعلويون والدروز) وكذلك الانقسام
الديني (مشكلة المسيحيين)، والمشكلة العشائرية وكذلك المناطقية، في
ليبيا وفي اليمن، ولاسيما مشكلة الجنوب ومشكلة الحوثيين وبعض القضايا
والمشاكل القبلية الأخرى أيضاً، وفي البحرين المشكلة الطائفية (الشيعة
والسنّة) ودور التداخلات الخارجية، (إيران في مواجهة دول مجلس التعاون الخليجي)،
وكان إتهام إيران في محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن قد زاد من الطين
بلّة، باشتباك ما هو دولي بما هو إقليمي وهذان العاملان بما هو عربي.
وستبرز قضية المرأة وموضوع الشريعة الاسلامية، خصوصاً إن هناك
صراعاً بين الإسلام السياسي والعلمانيين، وبين المحافظين والليبراليين، وبين
التراثي والتغريبي، وهكذا، وأعتقد أن موضوع الشريعة سيكون مادة صراع بين
الاسلاميين أنفسهم هذه المرة، خصوصاً وأن هناك قراءات متباينة للاسلام وتطبيقاته،
بين إسلاميين معتدلين وآخرين متطرفين، بين إسلام منفتح تركي وإسلام راديكالي
إيراني، وإسلام معتدل وآخر محافظ، وإسلام متسامح وآخر متعصب وإسلام مسالم وآخر
ارهابي، كما هي منظمات القاعدة، وذلك حين يتم استخدام الدين وتوظيفه لأغراض
سياسية. ومثل هذا الأمر انعكس في الجدل حول الدستور في تونس ومصر وليبيا وقبل ذلك
في المغرب، وسيكون محط نقاش واسع في اليمن وسوريا والبحرين وغيرها.
وقد كانت وثيقة الازهر الشريف التي أعلنها د. أحمد الطيب شيخ
الأزهر بالتعاون مع نخبة من المثقفين المصريين من اتجاهات مختلفة تعبيراً جديداً
عن ارتفاع الموجة الوسطية التي تدعو إلى "قيام دولة وطنية دستورية ديمقراطية
حديثة" في "إطار ستراتيجية توافقية" أساسها مبادئ الحرية والعدل
والمساواة، ولم تكن تلك بعيدةً عن التطور الذي شهده الاسلام التركي، التي عبّر عنه
برامج حزب العدالة والتنمية، لاسيما رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان حين
اعتبر عدم وجود تناقض لكونه رئيساً لدولة علمانية، وإن كانت مرجعيته الشخصية
إسلامية، لاسيما بوضع مسافة واحدة من جميع الأديان.
ولعل مثل هذا الأمر سيطرح على شكل أسئلة أخرى أبعد من علاقة الدين بالدولة،
بل بشكل الدولة، خصوصاً في إطار التنوّع الثقافي ولوجود قوميات وأديان: هل الدولة
الديمقراطية المنشودة ستكون دولة بسيطة أم مركبة؟، أي، دولة مركزية أو دولة لا
مركزية وحتى فيدرالية، بتوزيع الصلاحيات بين السلطات الاتحادية وبين السلطات
المحلية، علماً بأن هناك تشوشاً والتباساً بين مفهوم الفيدرالية وغيره من المفاهيم
التي قد تصل إلى الانفصال أو التقسيم بشكل مباشر أو غير مباشر، وبين مفهوم
الفيدرالية الإداري والقانوني، الأمر الذي يحتاج إلى فضّ الاشتباك وتأصيل المفاهيم
وتوضيح ذلك بما لا يؤدي إلى الإساءة للنظام الفيدرالي وهو نظام متطور ويعيش في
ظلّه أكثر من 40% من سكان العالم، ونحو 25 بلداً بما فيها بلدان كبرى ومؤثرة، وبما
يعزّز من المسار الديمقراطي بحيث لا يؤدي إلى تفتيت الكيانات القائمة بدعوى رفض
المركزية التي تحمل صورة مشوّهة عنها مثلما هي أنظمة العديد من البلدان العربية،
كما لا ينبغي أن يكون مبرّراً أو ذريعة لتفتيت دول المنطقة، حيث ينصرف الذهن إلى
التجربة العراقية التي هي أقرب الكانتونات والدوقيات والمناطقيات منها إلى قواعد
الفيدرالية المعتمدة دولياً ودستورياً، وفي إطار حق تقرير المصير، لاسيما للقوميات
وباسلوب ديمقراطي وظروف سلمية وطبيعية.
لقد أعاد الحراك الشعبي العالم العربي إلى السياسة التي تم النظر
إليها باعتبارها حكراً على نخبة أو مجموعة، فدفع الملايين من الناس إلى الساحات
والشوارع لتدعو إلى عقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، وعلى أسس
مختلفة، بحيث يستطيع المحكوم أن يستبدل الحاكم وعلى نحو دوري وبرضا الناس الذين
يمكن أن يسهموا بتحديد ملامح مستقبلهم. كما أعاد الحراك الشعبي إلى السياسة
بريقها ووهجها، وفي الوقت نفسه كشف عن خطل السياسات التقليدية في الحكم
وفي المعارضة، خصوصاً بانكسار حاجز الخوف الذي انتقل من المحكومين إلى الحاكم في
تغيير موازين القوى، وانكشاف الكثير من الخفايا والخبايا في أروقة الدول
الاستبدادية .
لقد كان الحراك الشعبي في الغالب الأعم داخلياً بامتياز وهو نتاج
تراكم طويل الأمد فقد ظل غياب مشروع نهضوي للتجدد الحضاري لأكثر من قرنين من
الزمان ثغرة كبيرة عانى منها المجتمع العربي، على صعيد علاقته مع بعضه البعض
وتنميته وأساليب الحكم المتبعة واستقلاله الاقتصادي وبالطبع على صعيد لحاقه
بالعالم لا تقليداً وإنما للتجدد والتواصل.
وليس لديّ أدنى وهم بأن ما حصل سيكون بديلاً أو تعويضاً عن معاناة المجتمع
العربي من التجزئة وهدر الحريات والاستعمار والاستغلال وغياب العدالة الاجتماعية
وكبح جماح التنمية فضلاً عن الركود والجمود، لكنه بلا أدنى شك حفّز الذاكرة وحرّض
الواقع على استعادة المشروع النهضوي العربي، باعتبار أهدافه لا زالت مطمحاً تسعى الشعوب العربية للوصول إليهما وتمثل
مشتركاً عربياً وإنسانياً وشعبياً على المستوى العربي.
فمنذ عصر النهضة هناك مطالب أساسية ظلّت هدفاً مشتركاً للنضال
العربي، وهذه المطالب يمكن أن تشكل اليوم، ولاسيما بعد الثورات والانتفاضات
الشعبية، مشتركاً أساسياً ومحورياً للعقد الاجتماعي المنشود، وعبر عقود من الزمان
كانت مطالب الإصلاح والتغيير وسيادة القانون والدولة الدستورية واختيار الحكام
واستبدالهم والمساواة والعدالة، أساس حركة فكرية إصلاحية من جمال الدين
الأفغاني إلى محمد عبده وخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وحسين
النائيني وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا وشبلي شميّل وفرح انطون وصولاً إلى سلامة موسى وعلي عبد الرازق
وغيرهم، وهؤلاء يجتمعون وكل من موقعه ومن مدرسته الفكرية، على أهداف ومطالب
أساسية، أو يشتركون في بحث معطياتها الرئيسية، حتى وإن اختلفوا في طريقة تناولها،
وهو ما تبنته حركات سياسية واجتماعية لاحقاً، لاسيما في مرحلة ما قبل وبعد
الاستقلال.
لعل ذلك هو مأزق الجيوبوليتيك، لاسيما للقوى الكبرى ولاسيما للمشروع
الإمبراطوري الأمريكي، خصوصاً بعد الربيع العربي، فقد وصل إلى مفترق طرق بعد
انهيار أنظمة حليفة وبعضها ممانعة له، وإذا كان التعامل معها يسيراً في السابق،
فإن التعامل مع انتفاضة شعبية وثورة شبابية وهياكل غير مكتملة في ظل مرحلة
انتقالية هو أكثر صعوبة، لاسيما إذا استمرت الولايات المتحدة في نهجها، دون أن
تأخذ بنظر الاعتبار تطلعات الشعوب في التنمية والديمقراطية وفي تأمين مستلزمات
نهوضها وتقدّمها في إطار الجماعة السياسية التي تنتمي إليها وتجمعها بها مشتركات
كثيرة مثل اللغة والدين والتاريخ والمصالح المشتركة.
لقد وضع الربيع العربي الجميع في مفترق طرق، فأمّا التخلص من آثار الماضي
بكل تبعاته الداخلية والخارجية، وأمّا الإنكفاء والتشظي، والسبيل للوصول إلى حالة
الاستقرار بعد التغيير وبعد غياب أنظمة الاستبداد وتساوقاً مع المتغيّرات الدولية
يمرّ عبر صندوق الاقتراع والإقرار بحقوق المواطنة المتكافئة والمساواة التامة وحكم
القانون وتداولية السلطة سلمياً واستقلال القضاء وإشاعة الحريات، وتلك تحتاج إلى
تراكم وتجربة وتوافقات سياسية واجتماعية، لاسيما في المرحلة الانتقالية التي ستكون
حاسمة.
الدكتور عبد الحسين شعبان
الدكتور عبد الحسين شعبان